الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ للَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا}. وهذا أمر منطقي يستقيم مع منهج الإيمان؛ لأنكم إن فعلتم ذلك. فإنما تقدمون الحجة ليعذبكم الله، وتعلمون أن المنافق يعلن الإيمان بلسانه ويخفي الكفر في قلبه، فكيف يكون وضع المؤمن مع الكافر مثل وضع المنافق مع الكافر؟ ذلك أمر لا يستقيم. ومن يفعل ذلك إنما يقدم حجة لله ليعذبه. الحق سبحانه في إرساله للرسل وفي تأييد الرسل بالمعجزات وفي إرساله المناهج المستوفية لتنظيم حركة الإنسان في الحياة، كل ذلك ليقطع الحجة على الناس حتى لا يقولن واحد: أنت لم تقل لنا يارب كيف نسير على منهج ما؛ لذلك لم يترك سبحانه الإنسان ليفكر بعقله ليصل بفكره إلى وجود الله، ويكتشف أن هناك خالقا للكون. لم يتركنا سبحانه لهذه الظنون، ولكنه أرسل لنا الرسل بمنهج واضح، من أجل ألا يكون للناس على الله حجة من بعد الرسل، فلا يقولن واحد: أنت لم تنبهني يارب، والجهل بالقانون في الشرع البشري لا يعفي الإنسان من العقوبة إن ارتكب جرما، لكن الله لا يفعل ذلك؛ فهو أكرم على عباده من أنفسهم، لذلك يرسل الرسول ليحمل المنهج الذي يبين الحلال من الحرام: {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ} [الأنفال: 42] فلا يقولن واحد: لقد أخذنا الله على غرّة. وأنتم أيها المؤمنون إن اتخذتم الكافرين أولياء من دون المؤمنين وتقربتم إليهم ونصرتموهم فأنتم أكثر شرا من المنافقين؛ لأن المنافق له أسبابه، وفي أعماقه خيط من الكفر وخيط من الإيمان، والحجة واضحة عليكم أيها المؤمنون؛ فقد أبلغكم الحق المنهج وأعلنتم الإيمان به. فإن صنعتم غير ذلك تعطون الحق الحجة في أن يعذبكم. {أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ للَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا} والسلطان المبين هو السلطان الواضح المحيط الذي لا يستطيع أن يدفعه أحد، فإذا ما كانت هناك حجة، قد يستطيع الإنسان أن ينقضها، كالمحامي أمام المحاكم. لكن حجة الله هي سلطان مبين. أي لا تنقض أبدًا. اهـ. .فوائد لغوية وإعرابية: قوله: {سُلْطَانًا}: السلطان يُذكَّرُ ويؤنث، فتذكيرُه باعتبار البرهان، وتأنيثه باعتبار الحُجَّة، إلا أن التأنيثَ أكثرُ عند الفُصَحاء، كذا قاله الفرَّاء، وحكى: قَضت عليْكَ السُّلطَانُ وأخذتْ فلانًا السُّلْطَانُ. وعلى هذا فكيف ذُكِّرت صفته، فقيل: مبينًا دون: مبينة؟ والجوابُ: أن الصفة هنا رأسُ فاصلة، فلذلك عدلَ إلى التذكير، دون التأنيث، وقال ابن عطية ما يخالِفُ ما حكاه الفراء؛ فإنه قال: والتذكيرُ أشهرُ، وهي لغةُ القرآنِ؛ حيث وقع. و{عَلَيْكُمْ} يجوزُ تعلُّقه بالجَعْلِ، أو بمحذوفٍ على أنه حال من {سُلْطَانًا} لأنه صفة له في الأصل، وقد تقدَّم نظيره. اهـ. .التفسير المأثور: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (144)} أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة في قوله: {أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانًا مبينًا} قال: إن لله السلطان على خلقه، ولكنه يقول: عذرًا مبينًا. وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال: كل سلطان في القرآن فهو حجة. اهـ. .تفسير الآيات (145- 146): .مناسبة الآيتين لما قبلهما: ولما نهاهم عن فعل المنافقين استأنف بيان جزائهم عنده فقال: {إن المنافقين في الدرك} أي البطن والمنزل {الأسفل من النار} لأن ذلك أخفى ما في النار وأستره وأدناه وأوضعه كما أن كفرهم أخفى الكفر وأدناه، وهو أيضًا أخبث طبقات النار كما أن كفرهم أخبث أنواع الكفر، وفيه أن من السلطان وضع فاعل ذلك في دار المنافقين لفعله مثل فعلهم، ومن تشبه بقوم فهو منهم، وسميت طبقات النار أدراكًا لأناه متداركة متتابعة إلى أسفل كما أن الدرج متراقية إلى فوق. ولما أخبر أنهم من هذا المحل الضنك، أخبر بدوامه لهم على وجه مؤلم جدًا فقال: {ولن تجد} أي أبدًا {لهم نصيرًا} وأشار بالنهي عن موالاتهم وعدم نصرهم إلى ختام أول الآيات المحذرة من الكافرين {وكفى بالله وليًا وكفى بالله نصيرًا} [النساء: 45]. ولما كان فيما تقدم أن الغفران للكافر- أعم من أن يكون منافقًا أولًا- متعذر، وأتبعه ما لاءمه إلى أن ختم بما دل على أن النفاق أغلظ أنواع الكفر استثنى منه دلالة على أن غيره من الكفرة في هذا الاستثناء أولى، تنبيهًا على أن ذلك النفي المبالغ فيه إنما هو لمن مات على ذلك، ولكنه سيق على ذلك الوجه تهويلًا لما ذكره في حيزه وتنفيرًا منه فقال تعالى: {إلا الذين تابوا} أي رجعوا عما كانوا عليه من النفاق بالندم والإقلاع {وأصلحوا} أي أعمالهم الظاهرة من الصلاة التي كانوا يراؤون فيها وغيرها بالإقلاع عن النفاق {واعتصموا بالله} أي اجتهدوا في أن تكون عصمتهم- أي ارتباطهم- بالملك الأعظم في عدم العود إلى ما كانوا عليه. ولما كان الإقلاع عن النفاق الذي من أنواعه الرياء- أصلًا ورأسًا في غاية العسر قال حثًا على مجاهدة النفس فيه: {وأخلصوا دينهم} أي كله {لله} أي الذي له الكمال كله، فلم يريدوا بشيء من عبادتهم غير وجهه لا رياء ولا غيره {فأولئك} أي العالو الرتبة {مع المؤمنين} أي الذي صار الإيمان لهم وصفًا راسخًا في الجنة، وإن عذبوا على معاصيهم ففي الطبقة العليا من النار {وسوف يؤت الله} أي المحيط بكل شيء قدرة وعلمًا {المؤمنين} أي بوعد لا خلف فيه وإن أصابهم قبل ذلك ما أصابهم وإن طال عذابهم، تهذيبًا لهم من المعاصي بما أشار إليه لفظ {سوف} {أجرًا عظيمًا} أي بالخلود في الجنة التي لا ينقضي نعيمها، ولا يتكدر يومًا نزيلها، فيشاركهم من كان معهم، لأنهم القوم لا يشقى بهم جليسهم. اهـ. .القراءات والوقوف: .القراءات: .الوقوف: .من أقوال المفسرين: .قال الفخر: قال الضحاك: الدرج إذا كان بعضها فوق بعض، والدرك إذا كان بعضها أسفل من بعض. اهـ. .قال ابن عاشور: فإنّ الانتقال من النهي عن اتّخاذ الكافرين أولياء إلى ذكر حال المنافقين يؤذن بأنّ الذين اتّخذوا الكافرين أولياء معدودن من المنافقين، فإنّ لانتقالات جمل الكلام معاني لا يفيدها الكلام لما تدلّ عليه من ترتيب الخواطر في الفكر. اهـ. .قال القرطبي: وقال أبو علي: هما لغتان كالشِّمْع والشَّمَع ونحوه، والجمع أدراك. وقيل: جمع الدَّرْك أدْرُك؛ كفَلْس وأفْلُس. والنار دركات سبعة؛ أي طبقات ومنازل؛ إلاّ أن استعمال العرب لكل ما تسافل أدراك. يقال: للبئر أدراك، ولِما تعالى دَرَج؛ فللجنة دَرَج وللنار أدْرَاك. وقد تقدّم هذا. فالمنافق في الدرك الأسفل وهي الهاوية؛ لغلظ كفره وكثرة غوائله وتمكُّنه من أذى المؤمنين. وأعلى الدركات جَهَنّم ثم لَظَى ثم الحُطَمَة ثم السعير ثم سقر ثم الجحيم ثم الهاوية؛ وقد يسمى جميعها باسم الطبقة الأولى، أعاذنا الله من عذابها بمنه وكرمه. وعن ابن مسعود في تأويل قوله تعالى: {فِي الدرك الأسفل مِنَ النار} قال: تَوَابيت من حديد مقفلة في النار تقفل عليهم. وقال ابن عمر: إن أشد الناس عذابًا يوم القيامة ثلاثة: المنافقون، ومن كفر من أصحاب المائدة، وآل فرعون؛ تصديق ذلك في كتاب الله تعالى، قال الله تعالى: {إِنَّ المنافقين فِي الدرك الأسفل مِنَ النار}. وقال تعالى في أصحاب المائدة: {فإني أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ العالمين} [المائدة: 115]. وقال في آل فرعون: {أدخلوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العذاب} [غافر: 46]. اهـ. .قال الفخر: قال الفخر: لما كان المنافق أشد عذابًا من الكافر لأنه مثله في الكفر، وضم إليه نوع آخر من الكفر، وهو الاستهزاء بالإسلام وبأهله، وبسبب أنهم لما كانوا يظهرون الإسلام يمكنهم الاطلاع على أسرار المسلمين ثم يخبرون الكفار بذلك فكانت تتضاعف المحنة من هؤلاء المنافقين، فلهذه الأسباب جعل الله عذابهم أزيد من عذاب الكفار. ثم قال تعالى: {وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} وهذا تهديد لهم. واحتج أصحابنا بهذا على إثبات الشفاعة في حق الفساق من أهل الصلاة، قالوا: إنه تعالى خصّ المنافقين بهذا التهديد، ولو كان ذلك حاصلًا في حق غير المنافقين لم يكن ذلك زجرًا عن النفاق من حيث أنه نفاق، وليس هذا استدلالًا بدليل الخطاب، بل وجه الاستدلال فيه أنه تعالى ذكره في معرض الزجر عن النفاق، فلو حصل ذلك مع عدمه لم يبق زجرًا عنه من حيث إنه نفاق. اهـ.
|